ينتهي أحدنا من (غيبوبة اختيارية) عن كل النصائح الطبية وغير الطبية، ويتمادى في الإسراف بتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة والمشروبات.
ثم يقوم ليسترخي على كنبته المُفضلة، وهو قرير العين بما «حشا» في معدته مما وقع في متناول يمينه وشماله، وذلك استعداداً لمشاهدة إحدى الحلقات من مسلسله التلفزيوني المُفضّل.
ولكن الأجواء ما تلبث تتلبد بغيوم من المنغصات الداخلية، التي لا للزوجة ولا للأولاد ناقة فيها أو جمل، حيث تبدأ حرقة ونار بالاشتعال في أعلى بطنه. ويتلوى على إثر ذلك ناسياً أي متعة للأطعمة التي التهمها للتو أو أي أمل في مشاهدة أبطال البرنامج المفضل الجارية أحداثه على الشاشة أمامه.
وقائمة عذابات ما بعد «لخبطة» الأكل طويلة. لكن أسرعها ظهوراً هي تلك الحرقة أو النار التي تعتري منتصف أعلى البطن، وفي المنطقة ما بين أعلى البطن وأسفل المريء بالذات، أي خلف عظمة القصّ. والتي يُطلق عليها حرقة الفؤاد heartburn.
حرقة وأرقام
وسبب المشكلة هو ارتداد محتويات ما في المعدة إلى المريء gastroesophageal reflux.
وفي الغالب وصول أحماض المعدة stomach acid إلى منطقة المريء غير المُهيأ لتحمل الأحماض الحارقة. أو أحياناً، ارتداد عصارات المرارة bile reflux إلى المعدة وصولاً إلى المريء.
وغالباً ما يزيد ألم الحرقة عند الانحناء إلى الأمام، أو حال الاستلقاء على الظهر، أو بتناول المزيد من الطعام، وبالليل على وجه الخصوص.
والشكوى من حرقة الفؤاد شائعة جداً، وقلما يجد أحدنا صعوبة في التعّرف عليها. والأرقام الصادرة من البلد المتقدم في الإحصاءات الطبية، وفق ما يُؤكده الباحثون الطبيون من جامعة هارفارد الأميركية، تقول لنا ان حوالي ثلث سكان الولايات المتحدة يُعانون من نوبة واحدة على أقل تقدير لحرقة الفؤاد في كل شهر.
وأن الكثيرين، وتُقدر أعدادهم بالملايين، يُعانون من تلك الآلام بشكل يومي ويتعاركون معها سعياً للتغلب عليها وإزالتها. والنتيجة أن أكثر من ملياري دولار يتم هدرها في شراء فقط نوعية الأدوية المضادة للحموضة antacids التي تُباع في المتاجر دونما الحاجة إلى وصفة طبية over-the-counter.
هذا ولنا أن نتخيل الأرقام الأكبر حجماً لبلايين الدولارات المُنفقة، في الولايات المتحدة فقط أو في باقي دول العالم، على مراجعات العيادات الطبية وإجراء الفحوصات والتحاليل وشراء أدوية المعالجة من النوعية التي تُصرف تحت الإشراف الطبي، وذلك كله سعياً لتخفيف حدة المعاناة من حرقة الفؤاد.
ارتخاء عضلي
نحتاج أن نفهم كيف تحصل المشكلة التي تنغص علينا متعتنا بُعيد الفراغ من تناول الأكل، أو حال الاسترخاء، أو عند الاستلقاء للنوم. ومشكلة حرقة الفؤاد بالأصل هي اضطراب عضلي.
وأحد أهم خطوات إتمام دخول الطعام من المريء إلى المعدة هو تجاوز لقيمات الطعام، أو جرعات السوائل، منطقة العضلة العاصرة في أسفل المريء lower esophageal sphincter. والتي يجب أن يتم ارتخاؤها في تناغم مع لحظة مرور لقمة الطعام أو جرعة الماء.
ثم يجب أن تعود إلى انقباضها الطبيعي كي تُغلق فوهة المعدة، وكي تُعطي فرصة للمعدة لهضم الطعام ودفعه للخروج من المعدة عبر المخرج الطبيعي، أي إلى الإثنا عشر في بداية الأمعاء الدقيقة. وحينما يحصل خلل في عدم استمرارية انقباض العضلة العاصرة لأسفل المريء بعد الفراغ من عمليات البلع، فإن محتويات المعدة، من أحماض أو أطعمة أو عصارات المرارة، ترتد إلى المريء لتدخل إلى أجزائه السفلى.
وأحياناً قد تصل حتى إلى أجزائه العلوية، لدرجة أن البعض قد يشعر بقطع من الطعام أو بالأحماض في حلقه. ولأن بطانة المريء غير مُهيأة لملامسة الأحماض، ولا تُوجد فيها أنظمة مقاومة تأثيرات الأحماض كما هو الحال في بطانة المعدة، فإن المريء يبدأ بالأنين من حرقة الأحماض لطبقة بطانته.
وغالباً ما يكون الخلل في ارتخاء العضلة العاصرة لأسفل المريء جزءا من العناصر المكونة لحالة «غيرد» GERD المرضية. إلا أن الأمر نفسه، أي دخول أحماض المعدة إلى المريء، قد يكون أيضاً نتيجة لوجود فتق في الحجاب الحاجز hiatal hernia.
وفي حالة الفتق هذه، يتسرب جزء من المعدة إلى منطقة الصدر، أي يكون الجزء العلوي من المعدة في الصدر والجزء الباقي منها في البطن.
وبالتالي يسهل ارتداد أحماض المعدة إلى المريء. ومعلوم أن الحجاب الحاجز هو غشاء عضلي يفصل بين البطن والصدر، وأن المريء بالكامل في منطقة الصدر وأن المعدة بكاملها موجودة في أسفل الحجاب الحاجز. أي أن المعدة بكاملها في البطن ولا يُوجد أي جزء منها في منطقة الصدر.
أشخاص أكثر عُرضة للمعاناة
ليس كل الناس مُعرضين للمعاناة من حرقة الفؤاد، لكن هناك حالات صحية أو مراحل من العمر، ترتفع فيها احتمالات الإصابة بتكرار المعاناة من حرقة الفؤاد.
وهؤلاء الأشخاص مُهيأون أكثر من غيرهم للتأثر بالعوامل السلبية التي تُسهل ارتخاء العضلة العاصرة في أسفل المريء. ومن ضمنهم:
- البدينون: وأحد التأثيرات السلبية للسمنة هي وضع مزيد من الضغط على المعدة وعلى الحجاب الحاجز. وبالنتيجة تضطر العضلة العاصرة في أسفل المريء إلى الارتخاء، ما يُسهل تسريب محتويات المعدة إلى المريء، وخاصة عند وجود أحد العوامل السلبية المُسهلة بالأصل لارتخاء تلك العضلة.
- الحوامل: ونظراً لأن مرحلة الحمل يصحبها زيادة في افراز هرمون البروجيسترون، فإن من السهل حصول ارتخاء في العضلة العاصرة في أسفل المريء.
ومعلوم أن من مهام هرمون البروجيسترون في مرحلة الحمل، العمل على ارتخاء العضلات في الجسم عموماً.
وبالذات فيما حول المفاصل وفي البطن. كما أن في مراحل الحمل المتقدمة يتضخم الرحم بالجنين، ما يرفع من مقدار الضغط داخل تجويف البطن، الأمر الذي يُسهم هو الآخر في تسهيل تسريب محتويات المعدة إلى المريء.
- مرضى الربو: ووفق ما يُشير إليه باحثو مايو كلينك، فإن الأطباء لا يعلمون على وجه الدقة سبب ارتفاع احتمالات حصول حالات حرقة الفؤاد لدى مرضى الربو.
إلا أنهم يقولون ربما لتكرار السعال ولصعوبات إخراج هواء زفير النفس، دور في ارتفاع الضغط داخل منطقة البطن. ومعلوم أن الذكور، وليس الإناث، يستخدمون عضلات البطن في إتمام عملية إخراج الهواء من الرئة خلال مرحلة الزفير. بينما تعتمد الإناث على تلك العضلات الصغيرة فيما بين صفوف الضلوع لإتمام العملية هذه.
ولذا نرى الرجال تنتفخ بطونهم وتنقبض مع دورات التنفس، ولا نرى ذلك على النساء بوضوح.
كما يرى باحثو مايو كلينك أن ثمة دوراً محتملاً لأدوية معالجة الربو في الأمر. ذلك أن بعض هذه الأدوية يعمل على ارتخاء العضلات المُغلفة للشُعب الهوائية، ما قد يُسهم في ارتخاء العضلة العاصرة في أسفل المريء أيضاً.
وعلينا ملاحظة أن ارتداد أحماض المعدة إلى المريء، ووصولها إلى منطقة الحلق، واحتمال تسريبها إلى القصبة الهوائية هو أمر وارد بشكل كبير، وخاصة أثناء النوم.
ولذا تشير المصادر الطبية إلى أن كثيراً من حالات السعال الليلي ونوبات الربو الليلي، سببها حصول وصول أحماض المعدة إلى أجزاء من الجهاز التنفسي.
وللتقريب، فإن إحدى مضاعفات تسريب أحماض المعدة إلى المريء هي تسويس الأسنان وذوبان الطبقات الخارجية المُغلفة للأسنان.
- مرضى السكري: ولدى هؤلاء المُصابين بمرض السكري، خاصة عند بدء ظهور مضاعفات وتداعيات هذا المرض الشائع، تتأثر حركة إفراغ المعدة.
وبالتالي يغدو طويلاً ذلك الوقت اللازم لإفراغ المعدة من محتوياتها إلى الإثنا عشر gastroparesis. وحينها يسهل حصول التسريب إلى المريء.
وهناك آليات أخرى لارتفاع احتمالات حصول حرقة الفؤاد لدى مرضى السكري. والعنوان الأبرز للسبب في جميع تلك الآليات هو عدم انضباط نسبة سكر الدم.
- تأخير إفراغ المعدة: وإضافة إلى مرض السكري في بعض آليات تسببه في حرقة الفؤاد، فإن ثمة أسباباً مرضية أخرى للتأخير في إفراغ المعدة من محتوياتها Delayed stomach emptying.
خاصة الأمراض العصبية أو العضلية المُؤثرة في تناغم واستمرارية حركة المعدة في الهضم والإفراغ.
وهناك مجموعات من الأدوية التي من تأثيراتها تأخير الإفراغ الطبيعي للمعدة، مثل الأدوية المُعالجة للاكتئاب Antidepressants ، وأدوية مضادات الهيستامين Antihistamines لمعالجة حالات الحساسية، والأدوية المُخدرة لتسكين الألم narcotics.
- إعاقة مخرج المعدة: وهناك درجات متفاوتة الشدة لحالة إعاقة مخرج المعدة Gastric outlet obstruction. وفي الحالات الجزئية من السد، نتيجة لحصول ندبات Scars ليفية بعد الإصابة المتكررة بقروح والتهابات في منطقة مخرج المعدة أو الإثنا عشر، يغدو من الصعب إخراج ما امتلئ في المعدة من أطعمة ومشروبات.
وبالتالي يرتفع إفراز الأحماض في داخل المعدة، ويسهل تسريب أحماض المعدة إلى المريء.
- اضطرابات الأنسجة الليفية الضامة: وثمة مجموعة من الأمراض غير النادرة الحصول، التي يطول الضرر فيها بنية وتراكيب الأنسجة الضامة الليفية في مناطق متنوعة من الجسم Connective tissue disorders.
مراجعة الطبيب
وغالبية حالات حرقة الفؤاد من النوع البسيط أو المتوسط، بمعنى أن الألم يُمكن تحمله، أو يُمكن منع حصول تكراره. إلا أن الإصابة بحالات شديدة من الألم، وبشكل متكرر، لا يُمكن للمرء إهمالها أو إهمال طلب المساعدة الطبية في التغلب عليها.
والسبب أنها فوق المعاناة الوقتية منها، قد تتسبب في حصول مضاعفات شتى على الجهاز الهضمي أو التنفسي أو الأسنان أو غيرها.
وتشير الإرشادات الطبية إلى ضرورة مراجعة الطبيب حال:
- حصول حرقة الفؤاد عدة مرات في الأسبوع الواحد.
- حرقة الفؤاد التي تعود للظهور حال زوال وقت مفعول الأدوية المضادة للحموضة.
- حرقة الفؤاد التي تتسبب في استيقاظك من النوم وعدم قدرتك للخلود فيه.
- استمرار حرقة الفؤاد بالرغم من تناول الأدوية التي نصحك بها الطبيب في السابق.
- وجود صعوبات في البلع.
- ترجيع دم أو مواد سوداء من المعدة.
- وجود براز أسود اللون.
- انخفاض واضح وغير مبرر في وزن الجسم.