رؤية الرسول قبيل معركة أُحدْ
((ليتفقه بعض الرعاديد من أدعياء كف الضرر وما إليه بما أرساه لنا الحبيب عن وجوب الثبات في مدننا الإسلامية والتحصن بها والدفاع عنها من قبل الرجال وحتى النساء كل حسب طاقته وقدرته بما يشبه حرب الأزقة والشوارع في حال تطلب الأمر )).
ففي مجلس الحرب الذي عقده الرسول محمد مع قادة جيشه قبيل معركة بدر حين وصل المشركين وعسكروا في عنين قرب جبل أحد, اخبر النبي صحبه عن رؤية رآها فقال(اني قد رأيت والله خيرا,رأيت بقرا تذبح ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت اني أدخلت يدي في درع حصينة) وتأويل البقر نفر من أصحابه يقتلون وتأويل الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته وتأويل الدرع بالمدينة, فكان رأي الرسول يقضي بوجوب البقاء بالمدينة والتحصن بها وعدم الخروج منها فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشرّ مقام وان دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة وحتى النساء من فوق المنازل وهنا أولى الرسول الكريم وجوب اشتراك الرجال والنساء بالدفاع عن حياض المدينة كل حسب مقدرته .
ولكن الأغلبية في ذلك المجلس أرادت الخروج للقتال وعلى رأسهم الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حيث قال للنبي (والذي انزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى أجالدهم بسيفي خارج المدينة) فغير النبي رأيه نزولا عند رأي الأغلبية واستقر الرأي على الخروج من المدينة واللقاء في ميدان القتال فصلى النبي بالناس الجمعة ووعظهم وأمر بالتهيوء لقتال الأعداء ففرح الناس بذلك ثم بالناس العصر وقد تحشد الناس فدخل بيته ومعه صاحباه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه والبساه وتدجج بالسلاح وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع وتقلد السيف ثم خرج على الناس وكان في الخارج يتداولون أمرا فقد قال لهم سعد بن معاذ وأُسيد بن حضير( استكرهتم رسول الله على الخروج فردوا الأمر إليه) فندموا على ما صنعوا فلما خرج النبي قالوا له يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما شئت وان أحببت أن تمكث بالمدينة فافعل فقال رسول الله ( ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) والمقصود الدرع فأمر النبي بتقسيم الجيش إلى ثلاث كتائب الأولى كتيبة المهاجرين وأعطى لوائها إلى مصعب بن عمير العبدري والثانية هي كتيبة الأوس من الأنصار وأعطى لوائها لأسيد بن حضير والثالثة هي كتيبة الخزرج وأعطى لوائها للحباب بن المنذر ولما خرج الرسول بجيشه وبعد أن جاوز ثنية الوداع شاهد في طريقه كتيبة حسنة التسليح منفردة عن سواد الجيش فسأل عنها فاخبر انهم اليهود من حلفاء الخزرج يرغبون المساهمة بالقتال ضد المشركين من قريش فسأل النبي( هل اسلموا) فقالوا لا فأبى أن يستعين بأهل الكفر على أهل الشرك(وقد روى ذلك ابن سعد2/34) وكان جيش المشركين بقيادة أبو سفيان صخر بن حرب وعلى الميمنة خالد بن الوليد قبل إسلامه وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل وعلى المشاة صفوان بن أمية وعلى رماة النبل عبد الله بن ربيعة أما اللواء فكان موكلا إلى مفرزة من بنو عبد الدار ومن المعلوم إن ذلك كان هو منصبهم منذ أن اقتسمت بنو عبد مناف المناصب لكن أبا سفيان أراد استفزازهم وحثهم على حفظ اللواء فذكرهم بما كان منهم يوم بدر حين اُسِرَ منهم حامل اللواء النضر بن الحارث فقال لهم ( يا بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فأما أن تكفون لواءنا أو أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه) فغضب بنو عبد الدار وقالوا له ستعلم في غد كيف نصنع فثبتوا على اللواء حتى قتلوا جميعا وأبيدوا عن بكرة أبيهم في تلك المعركة.
من عبقرية قيادة الرسول بالحرب
ورجال من حوله
عندما يراجع أي قارئ ملم بخطط الحرب والأركان العسكرية لمحطات المعارك والقتال والحرب بالسيرة النبوية المباركة فلا بد أن يتوقف بإعجاب بالغ عند عبقرية قيادة الرسول محمّد وحسن إدارته لمعالجة الأزمات والمحن وسنقف هنا عند محطة هامة هي خطة حرب معركة أُحد تلك الخطة الرائعة التي يقف إزائها دوما بذهول كل من يطلع عليها من خلال التفات الرسول الكريم بجيشه حول الأعداء وجعل ظهورهم مكشوفة له كما سيلي .
فحينما حل فجر المعركة وكان الرسول قائم يصلي قام كبير المنافقين عبد الله بن أُبَي بحركة خبيثة مقصودة غايتها إرباك القوات الإسلامية لصالح تقوية معنويات الأعداء حين ابدر بسحب قواته البالغة ثلاثمائة مقاتل أي ما يعدل ثلث جيش المسلمين وقفل راجعا بها إلى المدينة في اللحظة الحاسمة بحجة يعلوها النفاق والكذب سيرد ذكرها في موضع آخر .
لكن النبي لم يلتفت لهذا الأمر بل ركز تفكيره في حسن أعداد خطة الحرب المحكمة التي تناسب تلك المعركة غير المتكافئة خاصة بعد الانسحاب المفاجئ والفراغ الذي أحدثه خروج ذلك المنافق وصحبه لذا أراد النبي على عجل أن يتخذ أدق خطة أركان حرب كما نعرفها اليوم وان يحسن التعبئة وينتخب افضل ميدان يفرضه على المعركة وبعدها يوزع القوات على أساس الدفاع والهجوم على أساس أفضل تقدير موقف يناسب مثل تلك الواقعة العزوم فقام ونظر بنفسه إلى جحافل جيش المشركين أمامه على ذلك البعد فكان كأن الوضع لم يعجبه فقد قال( أمن رجل يخرج بنا على القوم من كثب ,أي جوار أو مقربة, من طريق لا يمر بنا عليهم) فقام أبو خيثمة وقال أنا يا رسول الله فاختار طريقا قصيرا يمر بحرّة بني حارث وبمزارعهم تاركا جيش المشركين إلى الغرب حتى مرّ الجيش الإسلامي بحائط مربع بن قيطي أي مزرعته أو ما شابه والذي لم يرق له ذلك وقتئذٍ لكن الجيش نفذ حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي فعسكر النبي بجيشه مستقبلا المدينة جاعلا ظهر الجيش إلى هضاب جبل أحد كساتر ظهير بينما وضع جيش الأعداء قبالته في موضع أدنى وهنا كان انتخاب الميدان جيدا وفق أعلى التقديرات العسكرية عندئذٍ تحول الرسول الكريم إلى خطة توزيع قواته فعبأ جيشه بعد أن انتخب ابتداء خمسون راميا من امهر الرماة ليجعلها كتيبة حماية تسيطر على ثغرة الموضع الذي التفوا منه من خلال تواجدها في موقع ستراتيجي منتخب بدقة للمراباة من على سفح جبل يقع على الضفة الجنوبية من وادي قناة وعرف ذلك السفح والجبل فيما بعد بجبل الرماة وتوزع الرماة هناك ليكفلوا حماية الجيش الإسلامي من الخلف وكانوا على مسافة مائة وخمسون مترا من مؤخرة الجيش الإسلامي وقد أوكل قيادتها إلى لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري بعد أن أوصاهم النبي بان لا يبرحوا أماكنهم لأي سبب من الأسباب إلا حين يأتيهم أمره بالانسحاب.
وبذا يكون النبي بحسب إعداد خطته قد أمن من الالتفاف على جيشه إن التزم الرماة في تلك الكتيبة بواجبهم وانتهى من ذلك الأمر ثم جعل على الميمنة المنذر بن عمرو وجعل على الميسرة الزبير بن العوام يسانده المقداد بن الأسود ثم جعل في المقدمة والقلب نخبة ممتازة من شجعان المسلمين الأبطال من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وبذلك يكون الرسول قد انتهى من توزيع قواته وتهيئتها للحرب بأفضل خطة عسكرية تناسب واقعة كتلك لا يمكن لأحد أن يضع مثلها في ظرف مماثل فقد تغلب بذلك على خصمه من ناحية الإعداد والتخطيط حيث أمن ظهر قواته بأكملها باحتضان المرتفعات من كل الجوانب من خلال سد الثغرة الوحيدة في الخلف وقد انتخب الموضع المرتفع للسيطرة والاحتماء في حال تقهقر القوات حتى لا تلجأ إلى الفرار وينكشف ظهرها فتقتل أو تقع بالأسر فقد احسن الرسول الكريم بكل ما أعده لتلك الواقعة بعكس أعدائه الذين فات عليهم كل ذلك إذ هم كانوا قبله في الموضع ولم يحسنوا القيادة ولا انتخاب الميدان ولا تحصين قواتهم وفاتهم بذلك جدوى سبق تواجدهم على ارض المعركة من قبل .
لله درّك يا حواري الرسول
عندما تقارب الجمعان قبيل اندلاع معركة أحد التاريخية سُجل كذلك موقفا تاريخيا فريدا فقد خرج من المشركين وتقدم للمنازلة حامل لوائهم طلحة بن أبي طلحة العبدري الذي كان من أشجع فرسان قريش ويسميه المسلمون كبش الكتيبة الذي خرج راكبا على جمله متحديا يدعوا إلى المبارزة فأحجم عنه الناس لفرط شجاعته فخرج إليه الزبير وتقدم مسرعا إليه بكل شجاعة وإقدام ولم يمهله للترجل بل وثب عليه وثبة الليث حتى صار معه على ظهر جمله ثم اقتحم به الأرض وألقاه عن ظهر الجمل ثم ذبحه بسيفه وقد رأى النبي صل الله عليه وسلم ذلك الموقف والتصارع الرائع فكبّر وكبّر المسلمون وأثنى على الزبير وقال في حقه(إن لكل نبي حواريا وحواريي هو الزبير) رضي الله عنه وأرضاه.(ذكره صاحب السيرة الحلبي2/18)
__________________